رواية شغفي
بقلم قسمة الشبيني
الفصل الثانى
مرت ثلاثة أشهر وهو يتبعها اينما ذهبت وكأنه ظلها ، تعجبت أحياناً تفرغه لتلك المتابعة التى كانت فى بدايتها خانقة وتتعجب أكثر أنها مؤخراً أصبحت منتظرة.
اخترق جميع مواقف حياتها وأصبح جزء من يومها الذى يتعكر إن غاب عنه.
لم تعد تتعجب ظهوره في أى وقت وأى مكان بل أصبح من الطبيعي ظهوره فى المشفى أو بباب شقتها أو مقتحما لحظات تأملها وحتى فى محلات البقالة يظهر من العدم ليختلس إحدى دقات قلبها ويغير مجرى يومها ثم يختفى.
تقلبت فى فراشها منزعجة مع طرقات عالية لتلتقط الهاتف والذى تشير ساعته للسادسة صباحاً ، غادرت دفء الفراش بخطوات مهرولة نحو باب الشقة ورغم أن جزء صغير داخلها تمنى أن يكون هو الطارق إلا أن اقتحامه الشقة بهذه الحدة جعلتها تلعن هذا الجزء منها.
- مين عندك ؟ اخوكى رجع أمته من لندن؟ هو فين؟
كان يتحرك متخبطا بين الجدران بينما تتسع عينيها لجنونه الذى لا ينتهى ؛ عن اى عودة يتحدث!
- بتقول ايه ؟ مين قال اخويا هنا ؟ فى حد عاقل يقتحم بيت حد في وقت زى ده؟
- ومين قالك انى عاقل!!
ضرب جانبى جبهته بكفيه بحدة صادقة جديدة عليها
- جننتى اللى جابونى لما مش اخوكى اللى هنا امال هدوم مين على الحبل؟
- هدوم؟؟
- ايوه فى ترنج رجالى منشور في بلكونتك يا هانم
- انت كمان بتراقب الغسيل اللى بنشره؟؟ انت فعلا مجنون
- ماقولتيش حاجة جديدة
- ترنج رجالى زى ده؟
انتبه لكفها الذى رفع ياقة السترة الرجالية التى ترتديها ليرتفع حاجبه الأيمن معلنا احتجاجه
- انت لابسة ترنج اخوكى ليه؟
- انت مااالك؟ انا حرة اطلع برة يا حسام بدل ما نفرج الجيران علينا
- ماشى يا آيلا خارج بس اعملى حسابك علشان جبت أخرى منك هكلم ايمى وننهى الموضوع ده انا مابقاش فيا عقل. لا عارف اعيش من غيرك ولا عارف أقرب منك كفاية كده داخل على سنتين مفيش ورايا غيرك اسبوعين بالكتير ودبلتى هتكون فى ايدك واقلمى نفسك على الوضع لأن ده اللى هيتم.
تحرك مغادرا شقتها ليجذب الباب الذى سينكسر فى إحدى المرات أثناء مغادرته ورغما عنها اتسعت ابتسامتها فرغم كل ما أبدته من رفضه لازال متمسكا بها ولازال يسعى للزواج منها.
مجرد شعورها برغبته فيها يحي داخلها روحها الأنثوية والتى أصبحت تدفعها مؤخراً لنثر بعض من الدلال الفطرى الذى يزيد حالته سوءاً.
............
كانت ليلته شاقة المجرم الذي يلاحقه مختل بكل ما تحمل الكلمة من معنى يقتل بدم بارد وتعددت ضحاياه ولم يترك خلفه دليلاً واحدا بل نفذ جرائمه بدقة أذهلت عقل حسام ورفاقه والغريب أن جميع الضحايا ليسوا من أهل البلدة الأصليين ولا حتى من المقيمين بصفة دائمة أو مؤقتة بل يختار ضحاياه من العابرين، ثلاثة شباب وفتاتين قضوا نحبهم بطريقة مؤسفة وجميعهم وجدت بقاياهم بالنهر على مدار أسبوعين وحين يتم العثور على جثمان أحدهم يكن في المياة منذ أربعة أيام مما أدى لصعوبة التعرف على الضحايا.
ليلة أمس كانت الليلة الأكثر صعوبة عليه فقد تعرف ذوى الفتاتين على الجثامين وكان الموقف مهولا إحدى الضحيتين كانت عروسا بقى على زفافها أياما معدودات وجاءت لاستخراج شهادتها الجامعية والثانية ابنة وحيدة أدمى والدها قلوب الجميع.
انتهت ليلته مع خيوط النهار الأولى ليقفل عائدا إلى مسكنه وأثناء طريق العودة الذى يتحتم مروره بشقتها رأى ما زاد من سوء حالته ليكن لقاءها الصباحى هو أفضل ما حدث له منذ رآها عصر أمس.
دخل منزله والذى يعيش فيه بمفرده ليجد أمامه والده يجلس بضيق فما أسوأ ما يمر به
- بابا حضرتك وصلت امته؟
- من اربع ساعات منتظرك
- اسف يا بابا حضرتك عارف طبيعة الشغل الحال من بعضه
- بس انت خارج من شغلك من اكتر من ساعة
- حضرتك بتراقبنى؟
لم تكن صدمة حسام بالأمر الذى يردع والده أو تدعوه للترفق بل تابع بغلظة معروفة عنه
- لما تبقى اطول منى ومش عارف مصلحتك لازم اراقبك يا حضرة الضابط
- بابا من فضلك انا تعبان وماسك قضية قارفانى فى عيشتى اتكلم علطول
- القضية بردو اللى فرقاك ؟ ايه حكاية البنت اللى بقا لك كام شهر بتلف وراها يا حسام
- مادام اتكلمت دوغرى يبقا اتكلم انا كمان، آيلا دكتورة وانا بحبها وكنت ناوى اتكلم مع حضرتك لانى عاوز اتقدم خطوة رسمى
- انت اتجننت رسمى ! انت عارف البنت دى مين؟
- طبعا عارف يا بابا...
- ماتقاطعنيش، الدكتورة بتاعتك نصف مصرية عارف يعنى ايه ؟!
- لا مش عارف هو فى سبب يمنع انى اتجوز واحدة مش مصرية خالص كمان ؟
- طبعا ما انت عقلك مش فيك، لو اتجوزتها يبقا حكمت على ولادك يخرجوا من العسكرية، العيلة اللى بقا لها خمس اجيال كل ولادها ضباط حضرتك عاوز تجوز واحدة ولادها ماينفعش يدخلوا العسكرية من أصله
- حضرتك بتتكلم جد؟؟ ده سبب اعتراضك ؟؟
- هو ده شوية؟
- لا مش شوية ده انعدام المنطق يا سيادة اللواء
- انت اتجننت يا ولد!!
- اتجننت يوم ما اتخليت عن حلمى وحققت حلمك، اتجننت يوم ما همشت سعادتى واخترت سعادتك ، اتجننت من زمان يا بابا وواضح أن جنانى كان ببلاش. عن اذنك انا تعبان ومحتاج ارتاح وبالنسبة لموضوع آيلا هيتم بكل الأحوال.
اتجه للغرفة والغضب يحرق قلبه تجاه أبيه لطالما كان المتحكم الأول في حياته وشقيقه ورفض بشكل قاطع أن يتجه اى منهما لاتجاه مغاير لحياته هو.
كانت أحلام حسام تدور حول الهندسة المعمارية وأمام رفض أبيه وإصراره على تقديمه لكلية الشرطة ظن أن مجرد تحقيق هذا الحلم له سيمنحه مستقبلاً فرص أخرى لتسير حياته كما يتمنى لكن على ما يبدو أن أبيه قد وضع خطط لحياة أجيال قادمة من هذه اللعبة المسماة عائلته .
ألقى بدنه المرهق فوق الفراش دون أن يبدل ملابسه اغمض عينيه لتظهر خلف جفنيه فوراً حتى ارتدائها ملابس رجالية لم يفقدها فتنتها بنظره أو تأثيرها على حواسه.
..................
مرت عدة ساعات استيقظ بعدها على رنين جرس الباب الذى لا ينقطع، نهض بوجه متجهم يتخبط في دواره حتى فتحه ليجد عمه العقيد بالحربية يقف أمامه مبتسماً
- عملت ايه في ابوك ده فاضل دقيقة ونولع من وشه سجاير
ابتسم حسام لعمه عبد الرؤوف الذى تقدم ليتجاوزه
- هو الموضوع كبر اوى كده؟
- كبر!! ابوك رايح دلوقتي للبنت شقتها
عادت ملامح حسام للتجهم وهو يتجه لغرفته صارخاً عازما على حمايتها
- هى حصلت!
- ماتخافش هى مش هناك
ارتخت أعصابه وهو يدور على عقبيه ينظر إلى عمه نظرة خبيثة
- ما تجيب من الأخر يا اوفه !
- اوفه فى عينك يا واد انا عمك احترمنى
- طب والله مابحترم حد زيك ، قول بقا صاحبك حاله هيقف
- ماشى جدعنة منى بس، جالها استدعاء من المستشفى وهى دلوقتي في العمليات والمستشفى النهاردة مش عارف فاتحة ولادة بس باين
تعالت ضحكات حسام وقد فهم فوراً أن عمه استخدم سلطته مع الإسعاف بالمحافظة ليتم تحويل كل حالات الولادة لنفس المشفى ليضمن عدم مغادرة آيلا غرفة العمليات مما يعجز والده عن مواجهتها .
- شد حيلك وظبط دنيتك بسرعة مش هنولد ستات البلد كلها على ما سيادتك تتجوز
- استنى يا اوفه هنتكلم سوا مع ايمى
- ايمى مين يا واد؟
- امها يا سيادة العقيد وانا وانت لابسين ميرى كده نزغلل عينيها شوية
تعالت ضحكات عبد الرؤوف بحماس فهو أيضاً كان ضحية لتجبر أخيه الأكبر سواء في حياته العملية أو الخاصة فلم يكتف بإلحاقه بالعسكرية بل أصر على زواجه من ابنة لواء سابق ولم يكن زواجهما سعيداً بل ساده البرود طيلة سبعة سنوات لم تثمر عن أطفال لذا كان الطلاق أفضل حل لحياته معها ولم تكن شديدة التعلق به أيضاً فلم تحاول التمسك بها أو طلب فرصة لحياتهما معا ومنذ تم الطلاق منذ عشر سنوات لم يفكر عبدالرؤوف فى الارتباط رغم محاولات أخيه الأكبر التى لا تتوقف لكنه عزم على التمرد وسعيد بتمرد حسام أيضاً.
عدة دقائق وكانا يجلسان أمام الحاسوب الذى طلت على شاشته اميليا ليبدأ حسام شرح موقفه
- لا انا مش موافق انك اتجوز آيلا وبابا انت مش موافق هو ممكن اعمل مشكلة مع آيلا وهى بتخاف كتير، هى مش تكول لحد أنها تخاف بس انا يعرف
- ايمى محدش يقدر يعمل حاجة واعملى حسابك لو رفضتى انت كمان انا هخطفها واتجوزها وانت وابويا اخبطوا راسكم فى الحيط
- انتى جننتى ولد
- اه اتجننت وبنتك هتجوزها لو اخر حاجة هعملها فى حياتى
- ينفع كده حضرة ابن اخوكى يعمله ده ؟
- مادام شهدتينى يبقا ينفع اه، امال عاوزين تحرموه من البنت اللى روحه فيها ويقف يتفرج عليكم ؟ انتم عاوزين ايه غير سعادة ولادكم ليه كل واحد عاوز يتحكم في مصير ولاده ؟ هو ده طبيعى!
- انتى ارضى بنتك اجوز واحد والده مش وافق عليها؟
- انا ماعنديش ولاد بس لو عندى ماافتكرش افكر غير فى سعادتهم
- يا حراااام انتى مفيش اولاد؟
- تؤ تؤ ولا فى مدام كمان ايه رأيك ما تيجى نجرب !
- عميييي انت بتشقط حماتى وانا قاعد
- حد قالك اقعد؟ قوم
كللت الدهشة ملامح حسام مع انفجار ضحكات اميليا ليدفعه عبد الرؤوف فيبتعد متذمرا متجها لغرفته عازما على خطبة آيلا اليوم مهما كانت الظروف.
...............
مع ظهيرة اليوم اقتحم حسام مكتب صديقه دياب الذى ربطته به علاقة صداقة قوية منذ أعوام اثبت فيها كل منهما جوهره الطيب لذا كان لجوءه إليه وطلب مساعدته أمر طبيعي
ألقى دياب الهاتف وهو ينظر لرفيقه
- صباح الهمچية، انت يا ابنى مش فى سكرتير مرزوع برة؟
- شكله حرم يقف قدامى
أجابه حسام وهو يجلس أمام المكتب مع نظرات دياب اليائسة منه
- اخلص شكلك چاى فى مصيبة
- عاوز اخطف حبيبتي وعاوزك تساعدنى يا دياب
اتسعت عينا دياب مع استقامة ظهره ليبدو أكثر طولاً
- انت ضابط الشرطة عاوز تخف حبيبتك وچاى لى انا المحامى اساعدك؟ ونعم الإختيار صراحة ده من مبدأ حاميها حراميها يعنى ولا إيه ؟
- اعمل ايه مفيش حل تانى ابويا مش موافق وهيهد الدنيا وهيقدر يمنعنى اتجوزها ابويا وانا عارفه جبار
- طب بس أهدأ واحكى لى بالراحة
مر نصف ساعة وحسام يتحدث عن آيلا وعن هيامه بها وعن مخاوفها من تطور علاقتها به والذى أدى لتأخر خطوة رسمية ومنح والده الفرصة للإحاطة بكل ما يحدث ومكنه من فرض سيطرته ورغم أن حسام كان ينتوى أخباره قبل اى خطوة إلا أن موقفه صباح اليوم أكد أنه أخطأ عليه أن يقتنص فرصته وحبيبته لن ينتظر حتى يحول أبيه حياته لنسخة عنه، هو يريد أن يحيا بحب
يريد أن يشعر بالحب
يريد أن يروى ظمأ قلبه الذى تصحرت جوانبه من غلظة والده بالحب الذى سيعيده للحياة.
لن ينتظر حتى يصبح نسخة عن عمه الذى فضل الوحدة رفضاً لتحكمات أبيه
ولن ينتظر حتى يصبح نسخة عن أخيه الأكبر الذى أصبح بلا هوية شخصية بسبب تحكمات أبيه.
سيكون نفسه مهما كلفه الأمر
زواجه من آيلا ليس فوزا بمن أحب فقط بل هو نجاة لنفسه من مصير لا يتمناه لنفسه.
- بس على حديتك هى لسه رافضة، يعنى لا يچوز انك تجرب منيها من أصله مش تاخدها غصب كمان. انت صوح صاحبى بس مش انا الراچل اللى يساعد في غصابنية حرمة واصل .
- ولو أكدت لك أنها بتحبنى تساعدنى؟
- افكر
- يا تقل دمك انت بنى آدم ده انت تنين بعقل عصفورة
لم يكن غضب حسام ليتسبب فى إشعال فتيل غضب دياب لوهلة واحدة بل ابتسم مستخفا
- بص من الآخر انا هجيب آيلا هنا وانت تجيب المأذون وتشهد انت والسكرتير بتاعك اللى قاعد برة زى قلته فاهم ولا لا وهتيجى معايا كمان نجيبها من المستشفى.
- عشمان انت يا حسام! هتچيبها كيف؟
- قولت لك يا بنى آدم مرة هخطفها
- يا بنى افهم انت ضابط شرطة تخطف كيه يعنى ؟
- قوم بس معايا يا دياب قبل ما ابويا يحس والحكاية ماتنفعش
ظل جالساً ينظر له ببرود لينتفض حسام يسب بروده وقوة أعصابه ثم يدور حول المكتب ليدفعه دفعا فيتحرك دياب مظهراً رفض سطحى لكنه داخليا يتمنى أن يحصل صديقه على السعادة وهو يؤمن ألا سعادة دون العشق هو نفسه لم يحيا حياة آدمية حتى تخلل العشق صدره وما يراه من غضب حسام ليس إلا تعبيراً عن خوفه من فقدان حبيبته وهو يعرف هذا الخوف حق المعرفة.
تعليقات
إرسال تعليق
اترك لنا تعليقًا ينم عن رأيك بالمحتوى