رواية شغفى بقلم قسمة الشبينى
أخيراً يمكنها الحصول على قسط من الراحة هى لم تر يوم مثل هذا طيلة مسيرتها المهنية ولا أثناء فترة دراستها.
هل أغلقت المستشفيات الأخرى أبوابها أمام النساء في المخاض ليصل أربع حالات بهذا التوالى السريع؟
جلست خلف باب غرفة العمليات الخارجى وقد أوكلت الحالة الأخيرة لزميلتها التى وصلت أخيراً بعد تأخير بسبب خناق مرورى, أى خناق مرورى يصل لثلاث ساعات!!
رغم أن الصراخ المصاحب للولادة يوتر أعصابها إن لم تكن المشرفة على الحالة لكن يمكنها التغاضي حتى ترتاح لنصف ساعة فمن الممكن أن تصل المزيد من الحالات فاليوم هو اليوم العالمى للوضع بالمشفى.
قدمت لها الممرضة هاتفها لتجد العديد من المكالمات الفائتة من حسام رغم أنها قلما تجيب اتصالاته إلا أنه لا يتراجع عنها.
ابتسمت مع ظهور اسمه على الشاشة الصغيرة وعادت لقلبها ثورة مشاعرها التى عايشتها هذا الصباح بسببه لتستجيب لمكالمته
- نعم
- اخرجى من باب الطوارئ الورانى بسرعة يا آيلا
- فى إيه يا حسام ؟
انتفضت واقفة وقد عثت المخاوف فساداً في صدرها فهذه النبرة شديدة الجدية التى يتحدث بها جديدة عليها كلياً.
تقدمت للخارج وهى تنتظر تفسيره ليزيد من مخاوفها بقوله
- بعدين هفهمك كل حاجة بسرعة انا فى عربية واحد صاحبى هاتى بس شنطة ايدك.
اتخذت طريقها للباب الخلفى كما طلب منها دون أن تقطع الإتصال وبالفعل وجدته يترجل عن سيارة مسرعا نحوها
- حصل إيه ؟
- تعالى معايا بسرعة
كان يجذبها نحو السيارة وهى تتصاعد مخاوفها بوتيرة مخيفة وسرعان ما كانت السيارة تنطلق من الشارع الخلفى أيضاً.
وقف ثلاثتهم داخل مكتب صديقه الذى تشعر أن مألوف لها
- هسيبك تتفاهم معاها ربع ساعة بس لو رفضت هرچعها مطرح ما تحب
- أخفى يا دياب من قدامى مش ناقصك انا ورايا بلاوى
- يعنى بساعدك ولسانك متبرى منك.
لكمه أثناء مغادرته بينما لازالت تنقل بصرها بينهما حتى اختفى هذا الدياب بغرفة أخرى ليتحول كامل اهتمامها إليه.
ظلت واقفة بمنتصف المكتب تنتظر تفسيره عن هذا التوتر الذى سببه لها والذى أدى لخروجها من المشفى بهذه الهيئة ، عقدت ساعديها ليجلس أمامها دون أن يهتز قناع وجهه الجاد
- احنا لازم نتجوز حالا
هى لم تقبل الزواج منه بالفعل أو لم تعلن عن قبولها له لذا ترى ما طرحه للتو دربا من جنونه الذى لا يتوقف
- عارف لو كانت حركة من حركات الجنان اللى بتعملها هعمل فيك إيه ؟
- هتعملى ايه؟
ارتفع حاجبه الأيمن فى نظرة متحدية مستصغرة بقدراتها على مواجهته رغم كم التوتر المسيطر عليه إلا أنها تفتح بابا لجنونه الشغوف بها .
كادت أن تغادر بعد أن أكد سؤاله مخاوفها ليسرع ويقف بطريق مغادرتها
- آيلا الموضوع جد أبويا هيعمل اى حاجة وكل حاجة ممكن تخطر في بالك أو لا علشان يمنعنى اتجوزك
انقبض صدرها وتبعته ملامحها ليصيب عقلها الشرود الذى مكنه من التمسك بكفها وقيادة خطواتها حتى جلست أمامه ليبدأ فى عرض الصورة كاملة عليها.
بدأت الفكرة رويداً تتضح أمام عقلها، لكن هل تقبل الزواج منه مع رفض أبيه ؟؟
هل تقبل بسرقة حلمها من شخص مثل والده؟
حلمها!!
بالطبع هو كذلك لقد تمكن حسام خلال الأشهر الماضية من التغلغل داخل عقلها وفرض سطوة ترفض الاعتراف بوجودها على مشاعرها التى تتخذ جانبه مهما وصل مستوى جنونه.
لكن مهما بلغ مستوى تعلقها به لن تسرقه، سيكون لها زوجا أمام العالم ولن تسمح لأبيه بالتدخل في حياتهما
لقد أعلن عن رغبته فيها بكل الطرق واستحت أن تفعل لكنها تفعل ولن يكون اى شخص حائلا بينها وبينه.
تحدث كثيراً ونجح بكل براعة فى إظهار صورة أبيه وقدراته أيضاً مما زاد من توجس قلبها خيفة بينما تحافظ على ثبات ما تظهره من انفعالات .
صمت منتظرا رداً أو تعقيبا لكنها تمسكت بالصمت حتى بدأ يشعر بأنه تطفل عليها بالفعل ، رفضها واضح وقد حاولت كثيرا دفعه عنها وحاول كثيراً التمسك بها.
- انا مستحيل اقبل الجنان اللى انت بتقوله ده
- جنان!! حبى وتمسكى بيك جنان يا آيلا ؟ علشان عاوز احافظ على وجودك فى حياتى ابقا مجنون ! واضح أن طول الفترة اللى فاتت كنت بضيع وقتى معاك ، حاولت كتير اثبت لك حبى واخليك تثقى فيا وفشلت وده طبعا لانك فعلا مش مهتمة بيا، انا آسف انى فرضت نفسى عليك واقتحمت حياتك وآسف انى خرجتك من شغلك وضيعت وقتك بس عمرى ما هكون آسف على حبى حتى لو انت ماقدرتيش الحب ده ، عن اذنك دياب هيرجعك المستشفى.
- استنى يا حسام
لكنه لم ينتظر أو ينظر نحوها بل انطلق مغادرا المكان دون أن يمنحها فرصة واحدة لطرح أفكارها أو توضيح رؤيتها فهل قست عليه بما يكفى فلم يعد متقبلا منها المزيد ؟
دخل دياب بعد مغادرته وجدها تجلس شاردة صامتة اقترب ببطء ليجلس بالقرب فهو يثق في مشاعر حسام ويثق أيضاً أنه يستحق الحب.
- چرى ايه حسام طالع يچرى ؟
- مشى خلاص
- يعنى ايه انت رفضتيه ؟
- انا كل اللى قولته مش ممكن اوافق على الجنان ده قام جرى من غير ما يسمع ولا يفهم
- طيب ممكن تفهمينى وانا احاول اوصل له
- إيه الصعب فى كلامى اصلا مش فاهمة؟
- أهدى يا دكتورة
- انت صاحبه اوى؟
النهدة التى صاحبت سؤالها أخبرته أن ما عنته ليس ما فهمه حسام ولا ما يعتقد أنه يفهمه حالياً ، هى بالفعل لا ترفض صديقه لكن لها رؤية لا يراها اى منهما.
- اخبرك حاچة حطيها قاعدة فى راسك، إحنا الرچالة مانفهمش التلميح لازم تدينا صيغة مباشرة الصيغة اللى جولتيها لحسام انك رافضة الچنان كيه ما جولتى بنفسك وحسام فاهم انك رفضاه لانه طول الشهور اللى فاتت بتأكدى له إنه مچنون انت ليكى رأى تانى بس هو مافهمهوش
- ايوه حسيت كده ، لو سمحت رجعنى المستشفى
- وهتعملى ايه مع حسام؟
- لو شوفته قوله آيلا بتقولك هى مش بتسرق حقها بتاخده غصب عن اى حد
- اطمنى هيعرف إن شاء الله حتى لو ماشفتوش . اتفضلى ارچعك شغلك
تحركت بحدة للخارج حدة تحمل جزء من عناد الطفولة الذى دفع عقل دياب فى اتجاه آخر بعيدا عنها إلى تلك الصغيرة التى تسكن صدره وتثير الجنون نفسه بكم الطفولة التى تحملها وبمجرد أن طفت صورتها فوق تلاطم أحداث عمله ذابت شخصيته الجادة وارسلت امواج الراحة ابتسامته لترسو فوق ملامحه التى تتغير كليا معلنا الإنصياع التام لسطوة عشقها.
................
جلس خلف مكتبه مكلل بالهموم، أغلق هاتفه ورفض التواصل مع أبيه أو عمه أو حتى دياب هو يكتفى بما يحمله من ألم ، وخزات شديدة ضربت أنحاء صدره ليشعر بتصاعد الدماء المحملة بحرارة شديدة إلى رأسه مما دفعه ليلقى به بين كفيه مستندا بمرفقيه إلى سطح المكتب.
طرقات خفيفة تبعها دخول أحد الأشخاص
- چبت لك خبره يا بيه.
- هو مين يا محروس ؟؟
تساءل وهو يرفع رأسه يطالع الشخص الذي لا يخفى توتره
- المچرم اللى بيجتل الشباب ويرميهم فى النيل
انتفض حسام واقفا وقد حصل محروس على كافة انتباهه
- وعرفته منين؟
- زى ما حضرتك فكرت تمام هو واحد محدش ممكن يشك فيه عايش وسط الناس راچل محترم والكل يشهد بيه ده كمان بيحكموه فى مشاكلهم بس المصيبة أنه عرف انى مرشد لسعادتك مااعرفش كيف وچه من ساعة لباب بيتى وباچرنى
إلتقى حاجبى حسام بحدة فكيف لمجرم بهذه البراعة أن يكشف نفسه لشخص بهذا اليسر بينما انتفض الرجل يتمسك بكفه ويقبله بلهفة اعجزته عن رفض هذا التصرف متابعاً
- أحب على ايدك يا بيه هو واخد بتى اللى ماليش غيرها، عاوز سعادتك تروح له وإلا هيجتلها بعد ساعة واحدة انقذ بتى يا بيه
نزع كفه من بين كفى الرجل
- انت بتعمل ايه يا محروس هو مين وازاى تصدق أنه خاطف بنتك بسهولة كده ؟
اختنق صوت محروس بعبراته المتجمعة بعينيه
- خطفها من المدرسة و مصورها على تلافونه وهى متكتفة ايد ورچل امرنى أچى لحضرتك اجولك هو مين واخدك لحد عنده بطولك وإلا مع أذان العصر هيكون مخلص عليها .
- هو مين؟؟؟
- مدرس فى المدرسة الثانوية اسمه كريم ، بتى يا بيه
الرجاء المسيطر على نبرة صوته لم يكن المحرك الرئيسي لحسام بل يحركه صور الجثامين، بكاء الأهالى، دماء الأبرياء، عمله الذى يحتم عليه التصدى للمجرمين وطبيعته السوية التى ترفض سفك الدماء .
ربت فوق كتف محروس
- تعالى يا محروس انا جاى معاك وبنتك هترجع سليمة إن شاء الله.
ـ ربنا يطول بعمرك وينچيك من كل كرب
تبعه محروس للخارج لكنه توقف ودخل المكتب المجاور لمكتبه لدقيقة قبل أن يغادر برفقته إلى مصير مجهول.
.............
قضت أغلب اليوم تشعر بكآبة شديدة مجرد شعورها بانسحابه ويأسه زعزع شئ ما داخلها، اثر على استقرار دواخلها فصارت تتلاطم بين الغضب والحزن، تارة غاضبة منه متوعدة له وتارة حزينة لعدم رؤيته ما تراه وحزينة لغيابه عن يومها.
اقترب موعد نهاية دوامها وبدأت تستعد للمغادرة ، ستذهب إلى شقتها الصغيرة وهى لأول مرة منذ أشهر لا تنتظر دفعة من جنونه، ستشاهد اليوم مشهد الغروب وهى واثقة لأول مرة منذ أشهر أنه لن يكون جزء منه
نهدة محملة بفتور مشاعرها فرت من بين شفتيها عل هذا التأجج داخلها يخبو وهى تحمل حقيبة يدها متجهة لخارج المشفى .
خطواتها بطيئة مستسلمة وتفقد ملامحها بريقها المعتاد .
توقفت أمام الباب الخارجي اثر توقف عربة الإسعاف لتمنحهم حرية التحرك بالمصاب أولا
توترت ملامحها مع توقف سيارة الشرطة وترجل البعض منها، بحثت بين الأوجه فلم تجده
عاد اليأس يتخلل صدرها لوهلة قبل أن يسرع المسعف ويسحب المصاب خارجاً لتجحظ عينيها فزعا وهى تراه فوق الفراش الذى يقترب منها تغطي ملامحه وملابسه دماءه .
تقافزت دقات قلبها وتملك منها الفزع لتتمسك بالفراش قبل أن يعبر الباب
- حسااام؟؟ ماله جرى إيه ؟
أجابها المسعف بما زلزلها داخلياً
- مجرم دبحه قطع فى الرقبة يا دكتورة
- دبحه!!
تغير مسار خطواتها دون وعى منها لتلحق الفراش عائدة للداخل تركض خطواتها بين الطرقات ويركض قلبها بين أضلعها .
أصرت على حضور جراحته رغم أنها لم تقدم يد المساعدة لجراح الأوعية الدموية الذى يجاهد لتقطيب جرحه وإنقاذ حياته بعد اكتشاف قطع كامل للشريان السباتى الأيسر .
تراه أمامها يخسر حياته وهى لم تخبره مطلقاً بأهمية وجوده فى حياتها
لم تخبره مطلقاً برغبتها فى تواجده الدائم بالقرب منها.
لم تخبره مطلقاً أنها أرادته كما أرادها وتعلم أنه فى حال نجاته رغم صعوبة هذه النجاة فهو إن نجا من قطع الشريان فستلازمه عواقب عصبية ستؤثر سلباً على وظائفه الحيوية.
ترى أمامها الرجل الوحيد الذي اقتحم حياتها واستحوذ على جزء منها سيتركها لتعود إلى الوحدة وبرودة الحياة .
تعليقات
إرسال تعليق
اترك لنا تعليقًا ينم عن رأيك بالمحتوى